تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 382 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 382

382 : تفسير الصفحة رقم 382 من القرآن الكريم

** وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * أَإِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ النّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُوَاْ أَخْرِجُوَاْ آلَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ
يخبر تعالى عن عبده ورسوله لوط عليه السلام أنه أنذر قومه نقمة الله بهم في فعلهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم, وهي إتيان الذكور دون الإناث, وذلك فاحشة عظيمة استغنى الرجال بالرجال, والنساء بالنساء فقال: {أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون} أي يرى بعضكم بعضاً, وتأتون في ناديكم المنكر {أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون} أي لا تعرفون شيئاً لا طبعاً ولا شرعاً كما قال في الاَية الأخرى: {أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} أي يتحرجون من فعل ما تفعلون, ومن إقراركم على صنيعكم فأخرجوهم من بين أظهركم فإنهم لا يصلحون لمجاورتكم في بلادكم فعزموا على ذلك, فدمر الله عليهم وللكافرين أمثالها, قال الله تعالى: {فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين} أي من الهالكين مع قومها, لأنها كانت ردءاً لهم على دينهم وعلى طريقتهم, في رضاها بأفعالهم القبيحة, فكانت تدل قومها على ضيفان لوط ليأتوا إليهم, لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبي الله صلى الله عليه وسلم لا كرامة لها. وقوله تعالى: {وأمطرنا عليهم مطر} أي حجارة من سجيل منضود, مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ولهذا قال: {فساء مطر المنذرين} أي الذين قامت عليهم الحجة, ووصل إليه الإنذار فخالفوا الرسول وكذبوه وهموا بإخراجه من بينهم.

** قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسَلاَمٌ عَلَىَ عِبَادِهِ الّذِينَ اصْطَفَىَ ءَآللّهُ خَيْرٌ أَمّا يُشْرِكُونَ * أَمّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـَهٌ مّعَ اللّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {الحمد لله} أي على نعمه على عباده من النعم التي لا تعد ولا تحصى وعلى ما اتصف به من الصفات العلى والأسماء الحسنى, وأن يسلم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم وهم رسله وأنبياؤه الكرام, عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام, وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيره: إن المراد بعباده الذين اصطفى, هم الأنبياء, قال: وهو كقوله: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين}. وقال الثوري والسدي: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين, وروي نحوه عن ابن عباس أيضاً, ولا منافاة فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى. والقصد أن الله تعالى أمر رسوله ومن اتبعه بعد ذكره لهم ما فعل بأوليائه من النجاة والنصر والتأييد وما أحل بأعدائه من الخزي والنكال والقهر, أن يحمدوه على جميع أفعاله, وأن يسلموا على عباده المصطفين الأخيار.
وقد قال أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عمارة بن صبيح, حدثنا طلق بن غنام, حدثنا الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي مالك, عن ابن عباس {وسلام على عباده الذين اصطفى} قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الله لنبيه رضي الله عنهم, وقوله تعالى: {آلله خير أم ما يشركون} استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة آخرى. ثم شرع تعالى يبين أنه المنفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره, فقال تعالى: {أمّن خلق السموات} أي خلق تلك السموات في ارتفاعها وصفائها. وما جعل فيها من الكواكب النيرة والنجوم الزاهرة والأفلاك الدائرة. وخلق الأرض في استفالها وكثافتها وما جعل فيها من الجبال والأطواد والسهول والأوعار, والفيافي والقفار, والزروع والأشجار, والثمار والبحار, والحيوان على اختلاف الأصناف والأشكال والألوان وغير ذلك.
وقوله تعالى: {وأنزل لكم من السماء ماء} أي جعله رزقاً للعباد {فأنبتنا به حدائق} أي بساتين {ذات بهجة} أي منظر حسن وشكل بهي {ما كان لكم أن تنبتوا شجره} أي لم تكونوا تقدرون على إنبات أشجارها. وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق المستقل بذلك المتفرد به دون ما سواه من الأصنام والأنداد كما يعترف به هؤلاء المشركون كما قال تعالى في الاَية الأخرى {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله} أي هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق, وإنما يستحق أن يفرد بالعبادة, من هو المتفرد بالخلق والرزق ولهذا قال تعالى: {أإله مع الله ؟} أي أإله مع الله يعبد, وقد تبين لكم ولكل ذي لب مما يعترفون به أيضاً أنه الخالق الرازق.
ومن المفسرين من يقول معنى قوله: {أإله مع الله} فعل هذا وهو يرجع إلى معنى الأول لأن تقدير الجواب أنهم يقولون ليس ثم أحد فعل هذا معه بل هو المتفرد به فيقال فكيف تعبدون معه غيره وهو المستقل المتفرد بالخلق والرزق والتدبير ؟ كما قال تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} الاَية. وقوله تعالى ههنا: {أمن خلق السموات والأرض} {أمن} في هذه الاَيات كلها تقديره أمن يفعل هذه الأشياء كمن لا يقدر على شيء منها ؟ هذا معنى السياق وإن لم يذكر الاَخر لأن في قوة الكلام ما يرشد إلى ذلك. وقد قال الله تعالى: {آلله خير أم ما يشركون}.
ثم قال في الاَية الأخرى: {بل هم قوم يعدلون} أي يجعلون لله عدلاً ونظيراً. وهكذا قال تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الاَخرة ويرجو رحمة ربه} أي أمن هو هكذا كمن ليس كذلك ؟ ولهذا قال تعالى: {قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} وقال تعالى: {أمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} أي أمن هو شهيد على أفعال الخلق حركاتهم وسكناتهم يعلم الغيب جليله وحقيره كمن هو لا يعلم ولا يسمع ولا يبصر من هذه الأصنام التي عبدوها من دون الله ؟ ولهذا قال {وجعلوا لله شركاء قل سموهم} وهكذا هذه الاَيات الكريمة كلها.

** أَمّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَـَهٌ مّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
يقول تعالى: {أمن جعل الأرض قرار} أي قارة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتحرك بأهلها ولا ترجف بهم فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة بل جعلها من فضله ورحمته مهاداً بساطاً ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرك كما قال تعالى في الاَية الاَخرى {والله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء} {وجعل خلالها أنهار} أي جعل فيها الأنهار العذبة الطيبة شقها في خلالها وصرفها فيها ما بين أنهار كبار وصغار وبين ذلك, وسيرها شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً بحسب مصالح عباده في أقاليمهم وأقطارهم حث ذرأهم في أرجاء الأرض وسير لهم أرزاقهم بحسب ما يحتاجون إليه {وجعل لها رواسي} أي جبالاً شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد بهم {وجعل بين البحرين حاجز} أي جعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزاً, أي مانعاً يمنعها من الاختلاط لئلا يفسد هذا بهذا, وهذا بهذا فإن الحكمة الإلهية تقتضي بقضاء كل منهما على صفته المقصودة منه, فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار السارحة الجارية بين الناس, والمقصود منها أن تكون عذبة زلالاً يسقى الحيوان والنبات والثمار منها. والبحار المالحة هي المحيطة بالأرجاء والأقطار من كل جانب, والمقصود منها أن يكون ماؤها ملحاً أجاجاً لئلا يفسد الهواء بريحها كما قال تعالى: {وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجور} ولهذا قال تعالى: {أإله مع الله ؟} أي فعل هذا, أو يعبد على القول الأول والاَخر ؟. وكلاهما متلازم صحيح {بل أكثرهم لا يعلمون} أي في عبادتهم غيره.

** أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السّوَءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأرْضِ أَإِلَـَهٌ مّعَ اللّهِ قَلِيلاً مّا تَذَكّرُونَ
ينبه تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد, المرجو عند النوازل, كما قال تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} وقال تعالى: {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} وهكذا قال ههنا {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه, والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه. قال الإمام أحمد: أنبأنا عفان: أنبأنا وهيب, أنبأنا خالد الحذاء عن أبي تميمة الهجيمي, عن رجل من بلهجيم قال: قلت يا رسول الله إلام تدعو ؟ قال: «أدعو إلى الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشف عنك, والذي إن أضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك, والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك» قال: قلت أوصني, قال: «لا تسبن أحداً ولا تزهدن في المعروف, ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك, ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي, واتزر إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين, وإياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة».
وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر, فذكر اسم الصحابي فقال: حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة, حدثنا يونس هو ابن عبيد, حدثنا عبيدة الهجيمي, عن أبي تميمة الهجيمي عن جابر بن سليم الهجيمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محتب بشملة, وقد وقع هدبها على قدميه فقلت: أيكم محمد رسول الله ؟ فأومأ بيده إلى نفسه, فقلت: يا رسول الله أنا من أهل البادية وفيّ جفاؤهم فأوصني, قال: «لا تحقرن من المعروف شيئاً, ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط, ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي, وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك, فلا تشتمه بما تعلم فيه فإنه يكون لك أجره وعليه وزره, وإياك وإسبال الإزار, فإن إسبال الإزار من المخيلة, وإن الله لا يحب المخيلة, ولا تسبن أحداً» قال: فما سببت بعده أحداً ولا شاة ولا بعيراً. وقد روى أبو داود والنسائي لهذا الحديث طرقاً وعندهما طرف صالح منه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن هاشم, حدثنا عبدة بن نوح عن عمر بن الحجاج, عن عبيد الله بن أبي صالح قال: دخل علي طاوس يعودني فقلت له: ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن, فقال: ادع لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه, وقال وهب بن منبه: قرأت في الكتاب الأول أن الله تعالى يقول: بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات بمن فيهن, والأرضون بمن فيهن, فإني أجعل له من بين ذلك مخرجاً ومن لم يعتصم بي فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء فأكله إلى نفسه, وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل حكى عنه أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالدقي الصوفي قال هذا الرجل: كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزبداني فركب معي ذات مرة رجل فمررنا على بعض الطريق على طريق غير مسلوكة فقال لي: خذ في هذه فإنها أقرب, فقلت: لا خبرة لي فيها, فقال: بل هي أقرب, فسلكناها فانتهينا إلى مكان وعر وواد عميق وفيه قتلى كثيرة فقال لي: أمسك رأس البغل حتى أنزل, فنزل وتشمر وجمع عليه ثيابه وسل سكيناً معه وقصدني, ففررت من بين يديه وتبعني, فناشدته الله وقلت: خذ البغل بما عليه, فقال هو لي: وإنما أريد قتلك, فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل, فاستسلمت بين يديه وقلت: إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين فقال: عجل, فقمت أصلي فأرتج علي القرآن فلم يحضرني منه حرف واحد, فبقيت واقفاً متحيراً وهو يقول: هيه افرغ, فأجرى الله على لساني قوله تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء} فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده فخر صريعاً, فتعلقت بالفارسوقلت: بالله من أنت ؟ فقال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالماً.
وذكر في ترجمة فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجيلة قالت: هزم الكفار يوماً المسلمين في غزوة فوقف جواد جيد بصاحبه وكان من ذوي اليسار ومن الصلحاء, فقال للجواد: ما لك ؟ ويلك إنما كنت أعدك لمثل هذا اليوم, فقال له الجواد: وما لي لا أقصر وأنت تكل العلوفة إلى السواس فيلظلمونني ولا يطعمونني إلا القليل ؟ فقال: لك علي عهد الله أن لا أعلفك بعد هذا اليوم إلا في حجري, فجرى الجواد عند ذلك ونجى صاحبه وكان لا يعلفه بعد ذلك إلا في حجره, واشتهر أمره بين الناس وجعلوا يقصدونه ليسمعوا منه ذلك وبلغ ملك الروم أمره, فقال: ما تضام بلدة يكون هذا الرجل فيها, واحتال ليحصله في بلده فبعث إليه رجلاً من المرتدين عنده, فلما انتهى إليه أظهر له أنه قد حسنت نيته في الإسلام وقومه حتى استوثق, ثم خرجا يوماً يمشيان على جنب الساحل, وقد واعد شخصاً آخر من جهة ملك الروم ليتساعدا على أسره, فلما اكتنفاه ليأخذاه رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم إنه إنما خدعني بك فاكفنيهما بما شئت. قال: فخرج سبعان فأخذاهما ورجع الرجل سالماً.
وقوله تعالى: {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي يخلف قرناً لقرن قبلهم وخلفاً لسلف كما قال تعالى: {إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين} وقال تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات} وقال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} أي قوماً يخلف بعضهم بعضاً كما قدمنا تقريره, وهكذا هذه الاَية {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي أمة بعد أمة, وجيلاً بعد جيل, وقوماً بعد قوم, ولو شاء لأوجدهم كلهم في وقت واحد, ولم يجعل بعضهم من ذرية بعض, بل لو شاء لخلقهم كلهم أجمعين كما خلق آدم من تراب, ولو شاء أن يجعلهم بعضهم من ذرية بعض, ولكن لا يميت أحداً حتى تكون وفاة الجميع في وقت واحد, فكانت تضيق عليهم الأرض, وتضيق عليهم معايشهم وأكسابهم, ويتضرر بعضهم ببعض, ولكن اقتضت حكمته وقدرته أن يخلقهم من نفس واحدة, ثم يكثرهم غاية الكثرة, ويذرأهم في الأرض, ويجعلهم قروناً بعد قرون, وأمماً بعد أمم, حتى ينقضي الأجل وتفرغ البرية, كما قدر ذلك تبارك وتعالى, وكما أحصاهم وعدهم عداً, ثم يقيم القيامة ويوفي كل عامل عمله إذا بلغ الكتاب أجله, ولهذا قال تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله} أي يقدر على ذلك أو أإله مع الله يعبد ؟ وقد علم أن الله هو المتفرد بفعل ذلك وحده لا شريك له ؟ {قليلاً ما تذكرون} أي ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق ويهديهم إلى الصراط المستقيم.

** أَمّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَـَهٌ مّعَ اللّهِ تَعَالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ
يقول تعالى: {أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر} أي بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية كما قال تعالى: {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} وقال تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} الاَية {ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته} أي بين يدي السحاب الذي فيه مطر يغيث الله به عباده المجدبين الأزلين القنطين {أإله مع الله ؟ تعالى الله عما يشركون}.